صبا قلبي

عندما تهب ريح الصبا .. تزيح الملل وتأتي بالأمل

عين الحاسد تُبلى بالعمى !

نتيجة لاختلاف بُنانا الاجتماعيّة والفكرية والتربويّة، وكحالة اضطراد طبيعي مع هذا الاختلاف تختلف طريقة تلقفنا للمشاكل والمطبّات التي تعترض حياتنا والامتحانات التي تضعنا الحياه في مواجهة حقيقية ومباشرة معها، ونختلف في نفس السياق طريقة مواجهتنا لتلك الامتحانات والاختبارات والمآزق عادةًَ، فالبعض يختار المواجهه المباشرة والبعض الآخر يفضّل السير مع التيّار والقبول بمايجري، في حين تأخذ الأستجابة عند آخرين للأحداث شكل الالتواء والهروب والانزواء جانبًا.

كثيرًا ماتقاطعنا في حياتنا مع أناسٍ جلسوا في بيوتهم وتركو عملهم وجامعتهم ورعاية أسرهم ربّما، بحجّة أنهم قد “اُُصيبو بالعين” وأن الحسد قد نال منهم ولن يقدروا على القيام مجددًا، أناس كُثر أعزو فشلهم الأسري مثلًا وعدم توافقهم مع ابنائهم وعدم قدرتهم على تشييد بناء عائلي متكامل ورصين إلى العين والحسد الذي نال من حياتهم وأسرتهم وحولهما إلى جحيم، طالب جامعي يطرد العلم من حياته ويتخّذ موقفًا انهزاميًا لا رجوليًاً وييأس من روحه وقدراته ويهرب من المواجهة، تسأله أو تسأل أهله فيأتيك الجواب:” عين وصابتو للمحروس !” أجوبه انهزامية لا تقدّم أي منطق اقناعي ومجرّدة من أي حلول علمية تبعد هذا الوهم عن أنفسنا وحياتنا .

إذا ماأمعنّا النظر في هذه الظاهرة وكيفيّة حلولها في مركز تفسير النكبات والحوادث عند الكثير من الناس لوجدنا أن الشعور بالعجز وعدم القدرة على المجابهة هو السبب الأول لطغيانها في تفكير غالبية الناس، الشعور بالعجز الذي يتخّذ التعبير عنه ردّه إلى أسباب عدّة ليس أولها الخرافة والسحر والشطط في ذلك، وليس آخرها الحسد “التقليدي” الآتي من قوى وهمية ليست ملموسة، كموجات البلوتوث مثلًا أو موجات الوايرليس! لكن هذهالمرة من العين، فأي امتحان أواختبار أوفتنة ممكن أن تصادفنا في نلصقها في ظهر الحسد وانتهت القضيّة!

 بجد الإنسان عادة أن الطريق الاقصر يكمن في لجوئه إلى تعليل الأحداث وفق قوى لا عقلية تساعده على التخلص من المشكلات التي يواجهها تخلصًا وهميًا، بدل من أن تساعده على حلها او حتى مواجهتها بطريقة واقعيّة، فالعجز الاجتماعي وعدم القدرة على التحكم الواعي في مسار حياتنا وبالتالي المجتمع وفي القوى التي تسيطر عليهما أكبر مايعلل ظهور الفكر الذي يرتكز على الحسد في تعليلاته لأحداث حياته.

النظرة العقلانية والمتأنّية تقول أنّ نتائج السحر والخرافة وكذلك الحسد “التقلييدي” غير مضمونة ابدًا وأنها في مقابل كل مرة تنجح فيها تخفق عشرات وعشرات المرات لكن أهم اسباب استمرار هذا اللون من التفكير اتجاه العقل البشري إلى التعميم السريع، وعدم امتلاك نظرة شمولية متكاملة تجاه الأحداث التي تصادف كلّ منّا، فترانا نؤمن بفاعلية السحر أو الخرافة بناء على نجاح أمثلة قليلة جدا جدا (وهو قطعًا نجاح بالصدفة ) دون أن يختبر الحالات الأخرى الكثيرة التي اخفق فيها هذا الأسلوب.

 فيقال عادة “فلان عينو مابتخب أبدًا وبتصيب فورًا” هذا الكلام غير دقيق اطلاقًا وغير علمي ولا يستند إلى منطق السببية الكونية والوجوديّة التي خلقها الله وجعلها ملازمة للظواهر الكونية والحياتيّة، الشخص نفسه أصاب بعينه مرة أو عشرة -فرضًا- لكنه أخفق مئات المرات ولم تأتي النتائج على حسب أمنياته السيئة أبدًا.

مكمن الخطورة الكبرى في هذا الموضوع هو ربط الخرافة بشكل عام “بالدّين” ومحاولة استغلال بعض النصوص الدينية الضعيفة أو المكذوبة والمنسوبة إلى أشخاص يشكلون ثقلُا كبيرًا في الوجود الديني كالنبي مثًلا، مستندين إلى وجود بعض الحقائق الغيبة عادة ضمن أروقة الأديان ومقارنتها بهذه المفاهيم الغيبة كالحسد التقليدي الأمر الذي يعطي شعور خفي أن الدين نفسه يدعم تلك الظواهر ويؤيدها ويسير معها في ذات الخطّ، وإذ بالدين يوضع بمواجهه مباشرة وخاسرة غالبًا مع منطق الأسباب القرآني والعلم والمنطق .

نأتي إلى القرآن لنعرّف الحسد من خلاله فنراه مختلف عن النظرة التقليدية اختلافًا كليًّا، لا يوجد أي اتفاق بين القرآن والعديد من النصوص التي تُنسب للنبي عن الحسد والعين كالقول “كاد الحسد أن يغلب القدر” و”العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر” لن نقارب هذه النصوص مقاربة نصوصيّة من حيث السند وصحته، لكننا سنُخْضعها لمنطق القرآن وكفى به.

ابليس حسد آدم لسجود الملائكة له، وحقد عليه وتمنّى له الشرّ بداية لكنّه ترجم هذا التمني بفعل مباشر، “فوسوس” الشيطان وأطاعه آدم فوقعت أول معصية في هذا الوجود لله، وطُرد آدم عليه السّلام من الجنّة إثر هذا “الفعل” الشيطانيّ، ففي سورة الأعراف تظهر لغنة الحسد واضحة على لسان إبليس “قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ “(الأعراف 12)
وفي سورة الإسراء تظهر لغة التحدّي المباشرة لله على لسان أبليس “لتضليل”ذرية آدم قاطبة “قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً” (الإسراء62)
إذًا الحسد في مثال ابليس كان عبارة فعل “الوسوسة” وفعل “التحريض” المستمر من قبله على المعصية الذي مارسه على آدم ومازال يمارسه على ذريّته من بعده، لم يجلس ويحدّق به ويقتصر على التمنى.

سورة المائدة تُسجّل لنا أيضًا أن أول جريمة قتل في الوجود والتي كانت بين الأخ وشقيقه تمّت تحت إشراف الحسد أيضًا “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ” (المائدة27)
إذا نتيجة الإحساس بالحسد تمّ ترجمتها عند الحاسد كفعل مباشر كان هذه المرة فعل “القتل” فنرى أن الحاسدكان عنده إرادة كاملة في أن يتخلّص من المحسود، لم يقتصر الأمر كما هو سائد في تعريف الحسد التقليدي على تمنّي زوال النعمة عن الآخر .. تمنّي لمجرّد التمني فقط، أبدًا، بل كان هناك ترجمة فعلية للحسد بشكل مباشر وصارم وقاتل “فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ” (المائدة 30 )

أخوة يوسف حسدوا أخيهم على مكانته المتميّزة فكادوا له كيدًا، همّوا بقتله بداية، ثم بعد ذلك قررّوا أن يجعلوه في غيابات الجبّ ويتخلّصوا منه إلى الأبد، ترجمو حسدهم وبغضهم وكرههم لأخيهم على شكل أفعال مباشرة ولم يقتصروا على التمني مستخدمين أعينهم الشريرة في ذلك “إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ” (يوسف 8.9.10)
أفعال مدبّرة ومحكمة وطريقة غاية في الفعالية في التخلّص من المحسود تخلّصًا مباشرًا وإلحاق أشدّ أنواع الضرر به بضربة واحدة قاضية.

هكذا إذا نجد الحسد في القرآن هو “فعل” وليس تمنّي وقوى غيبية غير مرئية صاردة من أعين تملك تلك الخاصّية الفريدة !
عندما أمرنا الله في القرآن أن نتعوّذ به من الحاسد قرنها بكلمة الشرّ “وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ” (الفلق 5) أي كارهِ أذا إذا كرٍه .
 لم يقل “ومن عين حاسد إذا حسد !” هناك شرّ يصدر من الحاسد كفعل مباشر هو مايتوجّب علينا المخافة منه وإعداد العدّة لمواجهته والاستعانة بالله عليه، لا أن يتحوّل الأمر إلى “هلويسة”دائمة من الحسّاد والخوف من التحدّث بنعم الله أمامهم، وأكوام الهموم التي تكبلنا عن العمل وتثبّط هممنا أمام تلك القوى الوهمية التي لا نستطيع فعل أي شيء حيالها.

لو كان الحسد له علاقة بالعين فقط، لوجدنا البشرية بكاملها قد وقعت فريسة للأمراض والفقر وغيره من المتاعب بسبب أن كل واحد يصيب الأخرين بعينه الحاسدة .

إن النعم ياسادة لو كانت تزول بالحسد لزالت نعمة الإيمان عن المسلمين الأوائل بمجرد أن حسدهم أهل الكتاب ولكن هذا لم يحدث بدليل قوله بسورة البقرة “وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْد أَنْفُسِهِمْ” (البقرة 109)

من جهة أخرى هامّة جدًا نجد أن العين طبقًا للخرافة تنفع وتضر وترحم وتمسك الرحمة وبهذا هي شريكة لله بتلك الأفعال – حاشاه سبحانه – النافع والضار الوحيد هو الله وفق ماأعطانا من ملكات ووفق توظيفنا لتلك الملكات “مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ” (فاطر 2 )

الآن نستطيع أن نفهم أن الحسد المذكور في كل الأحاديث الصحيحة ضمن سياق معنى الحسد المذكور في القرآن، الحسد الفعلي لا حسد التمني فقط، لما سقناه من أحداث قرآنية دعمت هذا المعنى الفعلي للحسد ومن أدلة عقلية علمية تقول أن الشر لا يمكن أن ينتقل بالتمني القلبي فقط .
إذا ماأخذنا حديث للحسد في صحيح البخاري مثلًا : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.
أو مثلًا حديث الزبير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين . رواه أحمد والترمذي
الحسد المذكور في هذه الأحاديث وغيرها أيضًا، هو الحسد القرآني وليس حسد التمنّي التقليدي المزروع في عقولنا، لأنه باختصار النبي لا يقول إلا ما يوافق القرآن، فالمشكلة ليست بالحديث أبدًا، المشكلة في المدرسة التي فهمت الحديث بشكل خاطئ وضمن سياق غير قرآني، وهذا الأمر ينطبق على كل الأحاديث الأخرى المذكور فيها الحسد والتي لا مجال لذكرها كلها هنا .. مجددًا هذه ليست دعوى لرفض الأحاديث إطلاقًا، إنما دعوى لفهما ضمن سياق القرآن ، والسؤال هنا: هل يمكن للنبي أن يقول أن التمني السلبي فقط بدون أي فعل شرّير مرافق لهذا التمنّي يحلق الدين ؟!
حديث “العين حق ” يندرج ضمن هذا الفهم أيضًا، العين التي تتمنى الشرّ يجب أن ينفّذ صاحبها فعل ما لترجمة هذا الشرّ على المحسود، لا أن يقتصر على التحديق فقط، وإلا كيف للعميان أن يصيبوا بالعين ؟ أسلبهم الله هذه النعمة مثلًا ؟!

أخيرًا نجد أن بثّ العناصر اللاعقلية في المكمن الشعوري عند الناس عن طريق الدين، هو طريق محفوف بالمخاطر ونذير شؤم بانصراف الجماهير عن هذا الدين عندما تجده يتناقض مع منطق السببية والعقل والعلم، إضافة إلى سلب الإرادة من ذواتنا وصنع شخصيات اتكالية على قوى وهمية تحاول أن تتملّص من واقعها ومهامها وترجئ كل شيء إلى العين وتدعوا عليها بالعمى !

أغنية “ذكراك والدي” بصوتي

22

البارحة كنت جالسًا مع أحد الأصدقاء أحدّثه عن حياتي العامة والخاصة وما يطرأ عليها من تغيرات وتقلبات تكاد تكون جذرية في بعض الجوانب .. خلال كل ذلك وفي عقبه كنت أشعر بالفقد ربما أو بالحاجة إلى والدي بجانبي بكلّ صدق.. ذاك الرّحيم الذي كان صديقي أحدّثه عن بشير الشاب فأسمع صدى كلماتي عنده ..

إذا قررت أن أتكلم لكم عن أكثر الصفات سيادة عند والدي رحمه الله فسأتحدث عن عدم الرغبة في الذهاب إلى الزيارات الاجتماعية كثيرًا، كان له طقوسه الخاصة مع بعض أصدقائه وأقربائه والقليل من الجيران فقط، كان لا يحبّ الانخراط في زيارات عائلية لا طائل لرأسه المتعب بهمّ الأولاد وتعليمهم وتربيتهم بها، وكانت هذه من أكثر الصفات تجذرًا في شخصيته .

بالنسبة لي كان حدث كذهاب أهلي في زيارة عائلية ما يعني أن موعدًا مع أبي قد حان للحديث عنا نحن الشباب، يحدثني عن أيام صباه الأولى وكيف قضاها عن قصص غريبة جرت معه أثناء الخدمة العسكرية – كانت الكثير منها مع بنات المشفى صاحبات الهدايا ت – عن عمله الذي ارتاده مبكّرًا ليساعد أباه في بناء منزل يجمع تلك العائلة الكبيرة ذات الطلبات الضخمة،عن تجاربه مع الناس واستخلاصه للعبر منها .. أحدّثه بدوري عن اهتمامي وشغفي بالموسيقى والإنشاد وحوادث الجامعة التي لا تنتهي .. نتكلّم عن بعض الأمور الفكرية أو الاجتماعية والتي كثيرًا ما كنا نختلف بآرائنا حولها .. أسخّن له الطعام ونجلس لنأكل كرفاق العمر ..

لا أخفيكم أن الكثير من الطباع التي كنت لا أتفق مع والدي بها وجدتها اليوم ضرورة لا يمكنني الحياد عنها بل صرت أفتخر لانتسابي لها، ليس أولها الكرم ولا آخرها خدمة الآخرين ! لم أستطع التملّص من قالبه كله لقد نال مني في بعض أجزائي ولي الفخر بذلك ..
كما لا أخفيكم أن بعض الصفات التي كنت لا أحبها في أبي أيضًا لم أستطع التحكم بها وسيطرت على جزء من حياتي وسلوكي، ليس أولها الشكوى ولا آخرها الطباع الحادّة في بعض الأحيان !

بعد أيام من اليوم تأتي ذكرى وفاته الرسمية، ذلك أن الذكرى غير الرسمية تأتي كل يوم أكثر من مرة .. في لحظات كهذه وفي مناسبة تحمل لي من العمق الوجداني ما يحمله فقدان ولدٍ مثلي لأبٍ كبير، تمر اللحظات الأخيرة التي جمعتني به على فراش المرض، تمر لحظات الوفاء التي استطعت قنص بعضها من عجلة الزمن التي كانت ستمر على روحه بتلك السرعة وتأخذها إلى حيث تخلد الأرواح هناك .. تمر لحظات الشوق الذي تطفئه الأرواح المتلاقية في سماء الصداقة الأبوية .. تمر لحظات الحاجة لأب يقف بجانبي ويدفعني للأمام فتأتي معها نغمات كلماته المليئة بالروح الإيجابية المحفّزة على العمل والنجاح ..

كلمات بسيطة تلخص المشهد الكبير أو جزء منه كتبها لي الشيخ محمود سوادي، ولحنتها بروحي قبل مقاماتي وصوتي، وسجلناها بصحبة العزيز جورج نعمة الذي تكون له لمسة السحر والإحساس في كلّ عمل يضع يده فيه ..

في ذكرى وفاتك تولد ذكراك والدي ..غنيتها لك فأسمِعها للجموع عندك ياوالدي ومعلمي !

*ملاحظة : التصميم في رأس الصفحة هو للأخت الفنانة: حنين ، شكرًا جزيلًا أختي على هذه الهدية الجميلة وهي المعتمدة عندي كصورة للأنشودة كما ترين 🙂

تغريدةُ عود .. وإنسانٌ جديد

عندما تنقر الريشة المرهفة على وتر العود أحس بإنسانيتي تتحرك معها، وتتقلّب على أوتار المقامات وتبحر مع الألحان..
هنا وفي مثل هذه اللحظات يرتقي الإنسان ويرتفع عن هذه الأرض المليئة بالآثام والأوهام والشرّ والقتل والدمّ ..
يذهب بحاله بعيدًا عن كلّ ذلك يستقرّ هناك مع الحبيب ربّما.. يمسح رأسه ويشعر بقربه واندماجه معه كإنسان واحد لا تكتمل مشاعره ولا حياته دون قربه..
أو لعلّه يقترب من ذاته التي يبحث عنها وعن ما يغذّي جمالها التي بات باهتًا..
يدخل إلى روحه التي تصلّبت بفعل الدنيا وتعقيداتها ..
يبتعد عن المعبد الذي لم يأتيه منه غير الكذب والتلفيق بأن الدخول إليه والتمرّغ على أعتاب كهنته يريح النفس ويرقى بالرّوح لكنه وجد العكس تمامًا..!
يبحث عن شيءٍ آخر غير التمرّغ وجدران المعبد السميكة المزخرفة وكهنته السعداء بالقطيع يرأسونه ..
يجد الإنسان الحقيقي الذي يطرب ويحبّ ويعشق ويشعر بالأنس والروعة والجمال ويحلّق بخياله ..
يجد الإنسان الذي يجحد خرافات المؤسسات الدينة التي أغرقت الإنسان بجدالات الفقه والتي مازادت الإنسان إلا تعقيدًا وتشريدا ..

لايحضر إلا الحلال والحرام هنا عند بعضهم، يتجاوزون الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي حبّ الجمال.. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ..
يدوسون على الذوق وما يحرّك الإنسان ويدعم روحه ويجعلونه مكروهًا ومحرمًا !
يتجاهلون كل ذلك الكائن المليء بالتداخلات النفسية والوجدانية ويحصرونه في زاوية النظر الفقهي المتخلف الذي اختزل الإنسان إلى بعدي الحلال والحرام، وابتعد عن الفنّ الملتزم الراقي الذي يخدم الحضارة والعلوم الإنسانية ويكمّل الإنفعال والإحساس عند الإنسان ويصنع ذوقًا أفضل وبالتالي واقعًا أفضل .

كانت هذه التدوينة عبارة عن تغريدة أضعها على تويتر وأمضي .. أشير بها لعازف عود جائني من حيث لا أدري حرّك جوانيّتي ودعم مكامن الفنّ والذوق الفنّي داخلي، العازف الذي نزل في فؤادي طيلة الليلة الماضية وسكنت ريشته في بيتنا، أحسست أنه يستحق أكثر من تغريدة .. ومن حقّه عليّ وقد صبا قلبي لفنّه ولريشته ذات الإحساس المحرّك لجوانيتي أن أكتب عنه هنا ..

سعد محمود جواد، عازف عود عراقي الجنسية – ومن غير العراقيين قد تميّز على متن آلة العود – لايزال في الثلاثينيات من العمر، لكنه يضاهي الكبار بفنه وريشته .. تعرفت عليه من خلال مقطوعة لمقام الحجاز الرقيق أخذتني بعيدًا ، بحثت عنه في الشّابكة وجدت له عدد لا بأس له من المقطوعات الجميلة والتي لم أجدها في موقعه الشخصي !

يظهر من خلال أدائه المتميّز أنه صرف على إحساسه الساعات الطوال ليصقله، وعلى ريشته التمارين العديدة ليطورها ويقربها من قلوب مستمعي ومتذوقي هذا الفنّ ، والأهم من ذلك أنه مازال أمامه الكثير من الوقت ليسجله التاريخ من بين العازفين المتميزين لهذه الآلة ..
شكرا للعازف الجميل فارس العود .. أدام الله عليه ريشته الملتزمة الجميلة 🙂

لايمكن للإنسان أن يتحرر ويترقى دون أن ينمّي المكامن الإنساينة داخله ومواهبه وطاقاته وإلا سيكون معاقًا .. وهل يمكن للإنسان أن يحمل هذا الإسم لولا تلك المكامن التي في داخله والتي يحرك الفنّ والموسيقى بعضًا منها ؟!

انتقام الأفكار

كان المجتمع السوري قبل انظلاق الثورة السورية – والعربي عمومًا – ينخر الفساد في أرجائه كلّها فلا تكاد مؤسسة إلا وبنيت وتأسست على أسس معوجّة غير قويمة، أسس ستسقطها عند أول مطبّ، فكان الهرم قائمًا وواقفًا من الخارج خاويًا مسودّاً من الداخل وكانت عوامل السقوط لهذا المجتمع ولترتيباته المختلفة التي تتقاطع مع السلطة الظالمة قد نضجت تمامًا وآلت للتحقق .

تشكّل الأفكار كما بات معروفًا لنا منصّة انطلاق حقيقة لكل أفعالنا وكل مايحيط بنا من عوامل، وبقدر نضج الفكرة وصحّتها ونضارتها بقدر ماتكون الأفعال طبقًا لها ورسمًا لخططها وتحقيقًا لفعاليتها، وعندما تفسد الفكرة سيفسد الفعل وستنتقم الفكرة من كل ذلك .. تنتقم لذاتها المسلوبة ولنضارتها المسروقة، هذا ماقاله المفكر مالك بن نبي عن عالم الأفكار وانتقامها .

فعالم الأشخاص مثلًا في المؤسسات التي نجدها تنهار اليوم سواء كانت اجتماعية، دينية، تعليمية، اقتصادية، سياسية، عسكرية لم يكن – وإلى الآن حتى – على هيئة النماذج الأصلية الأصيلة التي تعد ركيزة من ركائز البناء المتماسك، كان واقعنا على صعيد الاشخاص القائمين على شؤون البلاد باستثناء قلّة قليلة لا تحكمه الأخلاق ولا المثل في كثير من أعماله، انتفت القيمة من أولئك الناس وحلّت محلّها المادة والشيئيّة والمنصب وحب التريّس وحب التعالي والتحكّم بمصائر الناس وضمائرهم وتفكيرهم حتى .. كانت الفكرة التي انتصب عليها عالم الأشخاص فاسدة بالمجمل، فبنيت مؤسساتهم على هييئة فسادهم، فلحق السقوط بها .. خانوا الأفكار السليمة فانتفضت الفكرة وانتقمت محاولة أن تعيد كرامتها المسلوبة .. !

الانفصام ايضًا : فكان في المجتمع ثنائيات كبيرة تنبّئ عن انقسام وانهيار سيحدث قريبًا جدًا، الفرق بين سلوك الإنسان الاجتماعي وسلوكه الخاص، بين صلاته واصطفافه لها في المسجد بكل تنظيم وتنسيق، وفوضاه العارمة إبان خروجه من المسجد مباشرة، صيامه وجوعه وعطشه طيلة النهار، وانتقامه من ذلك الصيام والجوع بمائدة تكفي عوائل بأكملها لا تجد رغيف الخبز لتأكله، ماله المكدّس بشكل لا يدعوا إلا للمزيد من الترف والاستهلاك، وامتناعه عن التصدق لإحياء الييوت المهدمة أو في أحسن الأحوال إذا تصدّق نراه يوزع بعض النقود -التي هي من واجبه وفرض عليه – توزيعًا مفرّغ من المعنى توزيع يشبه توزيع الصراف الآلي بلا روح ولا معنى في ابتعاد كامل عن معنى التراحم بين الأغنياء والفقراء .
الفرق بين الإنسان الذي أتى به القرآن ليعظمه والقتل والسيف الذي أتى الإنسان ليحقرّه .. تناقضات بعيدة عن قول الله : قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ “الأنعام 162”.. ابتعدت الأفكار عن الانطلاق من النموذج القرآني الذي يؤسس لحياه اجتماعية صحية .. فسدت الفكرة مجددًا ثأرت الفكرة لنفسها وانتقمت من كل ذلك دفعة واحدة وانهارت تلك الثنائيات في قسم كبير منها اليوم !

عدم الفعالية : ليس هناك مجتمع يستطيع أن يستعيد زمام مبادرته ويركب ركب الحضارة دون تقديم المطالب الأساسية للإنسان، الأكل، الشرب، السكن، وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا “البقرة 35”
.. المطالب الأساسية غائبة في مجتمعنا ولم يعد لها أولوية إطلاقًا، الكثير من الأفواه كانت جائعة بائسة المأكل والمشرب والمسكن وبمفارقة لا إنسانية إطلاقًا يطلب منها شيخ السلطان -صاحب العبائة المطرزة بخيوط الذهب ربما- أن تعود لله وتصلح ذاتها وتعبد الله حق عبادته، وتصبر فقط على ماقدره الله من تقتير في رزقها .. في حين أن السلطان يعيش على أطباق الذهب والفضة، أي إله هذا الذي يدعون إليه سيقول الفقير المعدم ؟! ألم يقل الله الرحيم بالإنسان : ولقد كرمنا بني آدم .. أين تلك الكرامة عند أولئك الذين خانوا أفكار الإله وعزلوها عن الحياه .. أفواه جائعة وأيدي لا تعمل لا يمكن أن تصنع واقع أفضل ولا بدّ للافكار أن تنتقم من المجتمع الذي أوصل الإنسان إلى هنا وقد انتقمت اليوم كما نشاهد .

لا نستطيع أن ننكر أيضًا أن الأمراض التي انتقلت إلينا عبر القارات من المجتمعات الأخرى كالاستهلاك مثلًا وعدم التراحم، ساهمت هي الأخرى في فساد أفكارنا وبالتالي انتقامها، فالمشكلة كما يقول بن نبي صارت مزدوجة مركبة صار المجتمع يعاني من انتقام النماذج المثالية لعالمه الخاص به من ناحية، ومن ناحية أخرى لانتقام رهيب تصبه الأفكار التي استعارها من الغرب دون أن يراعي الشروط التي تحفظ قيمتها الاجتماعية. وقد أورث ذلك تدهورًا في قيمة الأفكار المكتسبة وحمل كلا العاملين أفدح الضرر في نمو العالم الاسلامي مادياً وأخلاقيًا وماهذا الذي نراه إلا صورة ونتيجة اجتماعية لذلك التدهور الذي حصل .

المجتمع كان مختلًا في توازنه بلا شك وكان هذا الاختلال عظيمًا فارتفعت قيمة الضريبة التي دفعها وسيدفها المجتمع إزاء ذلك، وخيانة الأفكار النقية كان صداها يتردد بشكل كبير في سائر نشاطاتنا، وكان الانتقام عنيفًا من تلك الأفكار ذاتها .. علينا إذاً أن لا نستغرب اليوم، أن لا نقول لماذا هدّمت كل المؤسسات؟ لماذا انتشر الفساد إلى هذه الدرجة؟ لماذا انتشر الدجالون وسارقي أرواح الناس والمتاجرين بدمائهم؟ لماذا تسلّط تجّار الأزمات على رمق الفقراء ؟ الأجوبة موجودة وظاهرة للعيان، هذا هو المجتمع وتلك هي صوره كانت أفكارنا فاسدة ففسد الواقع نتيجة لتلك الأفكار لم يكن شيئ مُؤَسس لكي يستمر كل شيء كان يسير نحو الكارثة .. كل شيئ كان آيل للسقوط .يقول الفيلسوف سقراط : إن الأفكار المقتولة والأفكار المخذولة تنتقم انتقام مخيف ..

لكن الجيّد في الأمر أن هذا الهدم كان هو الضرورة التي لا مفرّ منها ولا علاج سواها، لابدّ من هدم الأفكار البالية والمؤسسات المهترئة والنفوس الحقيرة، ولا بدّ للذنوب الاجتماعية أن تطفوا على السطح ليتم التركيز عليها ومعالجتها، فهذا الخراب للمجتمع هو الخطوة الأولى التي لا مفرّ منها من أجل بنائه .. من أجل إعادة إعمار تلك الأفكار النضرة والتأسيس عليها ورعايتها بسلوك جديد ونهضة فكرية كبيرة تسوقنا إلى عالم وواقع أفضل .. لا غرابة أن تتهدّم سورية وأن يحدث ماحدث لكن الغريب أن نبقى بنفس المستوى من الخراب الفكري والسلوكي بعد كل ذلك .

أغنية أيّام وفيضٌ من الإنسان

تأتينا موجات الظّلم من كلّ مكان تحيق بنا كما يحيق المكر السّيء بأهله .. تغيب القيم الإنسانية وينتشر الموت والقتل وسفك الدماء باسم الدين أحيانًا وينهش الكره والبغض واللاأخلاق والرذيلة بجسد القيم ويخرشها ويغيب الإنسان عندها وتحيا الوحوش .. نظنّ أن لا منجى من تلك المعمعة السيئة التي تجتاح مجتمعاتنا.. تأتينا بعض الإشارات أن لا، مازال هناك أمل دومًا، ومازال هناك وقت ومازالت هناك القيم..

تشقّ تلك القيم طريقها إلى واقعنا بصعوبة، لكنها تصل وترسم على تلك اللوحة السوداء خيوطًا بيضاء كشموع الليل ونجومه وقمره.. تأتي على هيئات مختلفة وعلى شواكل عدّة، تارة تأتيتنا عن طريق آية ربانية كونية وتارة تأتينا عن طريق حكمة وتارة عن طريق فعل إنساني من أحدهم وتارة عن طريق لوحة شعرية أو فينة أو موسيقية وتارة عن طريق كل ذلك معًا !

هذا ماوجدّته حقيقة مع الرّاحلة وردة الجزائرية في إغنيتها: أيّام .. عادة عندما استمع إلى أغنية لعدّة مرات دون أن أعلق عليها أو أفصح عن مقامها وتفصيلاتها الموسيقيّة وأنسرّ وأنتعش وأعقّب وأعلق وأنقد -ويعرف ذلك من حولي من أصدقاء ت- عندما يحدث ذلك معناها أن الأغنية أخذتني بعيدًا، ساقتني إلى عالمها الخاص وسحرتني وحرّكت ما بداخلي من حبّ تغير هذا العالم عبر الفنّ ومن خلاله.. هذا بعض مافعتله أيّام فقط.

لا أدري لماذا نحى الفنّ -وأقصد الفنّ المسموع على وجه التحديد هنا- منحىً بعيد عن القيم الإصلاحيّة في المجتمع، لماذا لم يأخذ من يعملون في هذا المضمار على عاتقهم هذا الأمر؟ لماذا ابتعد الفنّ عن القيم الجمالية العديدة التي من شأنها أن ترقى بالنفوس وتقترب بها مجددًا إلى شواطئ الإنسانية؟ لماذا أخذ الفنّ يهدم أكثر ما يعمّر؟ لماذا صار منبرًا من منابر الرذيلة لا الفضيلة؟ لماذا ابتعد عن الإنسان وبالتالي عن الواقع؟ لماذا كذب الفنّ علينا في تبنيه قضايا لا تعنينا كثيرًا؟

بمراجعة سريعة لما عُرض علينا من مواد فنيّة مسموعة نجد أن الفنّ اقتصر على أغاني الحبّ وعذاباته بالتحديد، على قصص اللوعة الناتجة عن فقد الحبيب وتركه وهجره، وتجلّت معاني السوداوية في أكثر أغاني العاشقين في مفارقة عجيبة لما يجب أن يكون ترويحًا عن النفس ووأدًا للكآبة -طبعًا وجود الاستثناءات يثبت القاعدة ولا ينفيها أبدًا- لم يقترب الفنّ من الناس كلوحة فرح وأمل وتسامح ومحبّة حقيقيّة تحمل كل معاني الحبّ الرائعة، لم نسمع الأغاني تبشّر بالسعادة المصاحبة للقيم الروحية والأخلاقية المفقودة بل على العكس تمامًا أُوغل الفنّ بالغذاب والمزيد منه، واستطاعت الموسيقى ربّما -الموسيقى فقط بدون كلمات- أن تخرج من هذا القالب قليلًا بنسبة ضئيلة ..

حتى الأناشيد الدينيّة سمعناها في أغلبها على هيئة تراتيل حزينة مقيتة في كثيرٍ من الأحيان، دائمًا ماتجلد الذّات العاصية التي لا تستحق رحمة الإله ولا تستحق عطفه وربما لا تستحق روحه التي نفخها في تلك الذات.. دائمًا مايلوح النشيد إلى الأحشاء التي تمزّقت في حبّ الإله والرسول والصحابة وآل البيت.. وكأن الإله بعثنا لنتعذّب في حبّه وحبّ من أرسلهم إلينا !

المؤسسة الدينة التي فشلت في كلّ شيء تقريبًا فشلت أيضًا في تقريب الفنّ وبالتالي القيم والروح من الإنسان وحرّمت وجلدت النفوس المقهورة في حال اقتربت من هذا الوادي السحيق الذي سيهوي فيها في بحر العصيان العميق وأطنان الرصاص التي ستٌصبّ في إذنها يوم القيامة ! راحت هذه النفوس وكنتيجة طبيعيّة تُظهر هذا القهر فقط، تبثّه إلى الواقع لتزيده مرارة ولتفاقم مشاكله الوجوديّة .

يقولون أن الفنّ مرآة الواقع، فكما يكون الواقع سينتج فنّا منبثقًا منه ومشتق عنه، أنا أرى ذلك أيضًا وهو أمر طبيعي لكنّي أحب أن أعدّل على هذه المقولة وأقول: إن الفن يجب أن ينبثق من الوقع ويجب أن يساهم في علاج ذلك الواقع المنبثق عنه، لا أن يكتفي بعرض المشكلة فقط .. لا أن يكتفي الفنّ بالوقوف على الأطلال والندب واللطم المادّي والمعنوي !

سيحضر هنا قول البعض أن الفن لم يأتي منه إلّا العريّ والعلاقات الفاشلة والدعارة ربّما واللاأخلاق، أقول نعم وأكثر من ذلك كان حدث وسيحدث إن بقينا نقدّم الفنّ بهذه السوداوية وهذا البعد عن حلّ مشاكل الإنسان.. سيلجأ الإنسان المقهور إلى فنّ آخر فن يخدّره يبتعد به عن واقعه الكئيب عن وقعه المليء بغصّات الكره والبغض والحقد وعدم التسامح، سيجد هذا الإنسان في الفنّ الهابط ملهاة تبعده وتخرج به من حجرته المظلمة.. الفنّ هبط فعلًا لكن ذلك الهبوط كان نتيجة طبيعيّة للابتعاد عن جوهره الروحاني البعيد عن الإنسان وحل عقده المزمنة .

تأمّلوا هذا العمل معي أصدقائي، تأملو كم الروعة التي يحويها هذا العمل وكم الإبداع الذي يقطن فيه من كلمات ولحن وتوزيع وإخراج، كم نحتاج في واقعنا الفنّي إلى أعمال بهذا المستوى من الروعة والوجدانيّة والإنسانية والإتقان؟ كم نحتاج إلى أعمل تدعوا للتصالح مع الفنّ ومواضيعه النهضوّية العديدة؟ كم نحتاج لأن نقرّب الفنّ من واقعنا ونضعه وسط مشكلاتنا ونجعله يساهم في حلها؟ كم نحتاج إلى أن ننضع الفنّ بجانب منابر التغيير الأخرى ونتخّذ كل الوسائل التقنية الحديثة التي تساعد على ذلك؟

أيّام، نموذج لأعمال فنيّة كثيرة منتظرة من جيل فهم الغناء والإخراج والتمثيل حق الفهم، فهم الفنّ على أنّه مطية ومنصة لتغيير الواقع للأفضل وعدم الاكتفاء بفنّ جلد الذات والبكاء على الأطلال وطمس القيم ونشر العهر والرذيلة.. حتى لا نبقى نشهق كما شهقت الصغيرة الجميلة على صدر أبيها في نهاية الأغنية، علينا نحن من نحبّ الفن الهادف تبنّي هذه المهمّة.. وأنا أوّل من تقع على عاتقي مهمّة كهذه .

* نسخة من الأغنية بصيغة mp3