صبا قلبي

عندما تهب ريح الصبا .. تزيح الملل وتأتي بالأمل

Tag Archives: التصالح مع الغناء

أغنية أيّام وفيضٌ من الإنسان

تأتينا موجات الظّلم من كلّ مكان تحيق بنا كما يحيق المكر السّيء بأهله .. تغيب القيم الإنسانية وينتشر الموت والقتل وسفك الدماء باسم الدين أحيانًا وينهش الكره والبغض واللاأخلاق والرذيلة بجسد القيم ويخرشها ويغيب الإنسان عندها وتحيا الوحوش .. نظنّ أن لا منجى من تلك المعمعة السيئة التي تجتاح مجتمعاتنا.. تأتينا بعض الإشارات أن لا، مازال هناك أمل دومًا، ومازال هناك وقت ومازالت هناك القيم..

تشقّ تلك القيم طريقها إلى واقعنا بصعوبة، لكنها تصل وترسم على تلك اللوحة السوداء خيوطًا بيضاء كشموع الليل ونجومه وقمره.. تأتي على هيئات مختلفة وعلى شواكل عدّة، تارة تأتيتنا عن طريق آية ربانية كونية وتارة تأتينا عن طريق حكمة وتارة عن طريق فعل إنساني من أحدهم وتارة عن طريق لوحة شعرية أو فينة أو موسيقية وتارة عن طريق كل ذلك معًا !

هذا ماوجدّته حقيقة مع الرّاحلة وردة الجزائرية في إغنيتها: أيّام .. عادة عندما استمع إلى أغنية لعدّة مرات دون أن أعلق عليها أو أفصح عن مقامها وتفصيلاتها الموسيقيّة وأنسرّ وأنتعش وأعقّب وأعلق وأنقد -ويعرف ذلك من حولي من أصدقاء ت- عندما يحدث ذلك معناها أن الأغنية أخذتني بعيدًا، ساقتني إلى عالمها الخاص وسحرتني وحرّكت ما بداخلي من حبّ تغير هذا العالم عبر الفنّ ومن خلاله.. هذا بعض مافعتله أيّام فقط.

لا أدري لماذا نحى الفنّ -وأقصد الفنّ المسموع على وجه التحديد هنا- منحىً بعيد عن القيم الإصلاحيّة في المجتمع، لماذا لم يأخذ من يعملون في هذا المضمار على عاتقهم هذا الأمر؟ لماذا ابتعد الفنّ عن القيم الجمالية العديدة التي من شأنها أن ترقى بالنفوس وتقترب بها مجددًا إلى شواطئ الإنسانية؟ لماذا أخذ الفنّ يهدم أكثر ما يعمّر؟ لماذا صار منبرًا من منابر الرذيلة لا الفضيلة؟ لماذا ابتعد عن الإنسان وبالتالي عن الواقع؟ لماذا كذب الفنّ علينا في تبنيه قضايا لا تعنينا كثيرًا؟

بمراجعة سريعة لما عُرض علينا من مواد فنيّة مسموعة نجد أن الفنّ اقتصر على أغاني الحبّ وعذاباته بالتحديد، على قصص اللوعة الناتجة عن فقد الحبيب وتركه وهجره، وتجلّت معاني السوداوية في أكثر أغاني العاشقين في مفارقة عجيبة لما يجب أن يكون ترويحًا عن النفس ووأدًا للكآبة -طبعًا وجود الاستثناءات يثبت القاعدة ولا ينفيها أبدًا- لم يقترب الفنّ من الناس كلوحة فرح وأمل وتسامح ومحبّة حقيقيّة تحمل كل معاني الحبّ الرائعة، لم نسمع الأغاني تبشّر بالسعادة المصاحبة للقيم الروحية والأخلاقية المفقودة بل على العكس تمامًا أُوغل الفنّ بالغذاب والمزيد منه، واستطاعت الموسيقى ربّما -الموسيقى فقط بدون كلمات- أن تخرج من هذا القالب قليلًا بنسبة ضئيلة ..

حتى الأناشيد الدينيّة سمعناها في أغلبها على هيئة تراتيل حزينة مقيتة في كثيرٍ من الأحيان، دائمًا ماتجلد الذّات العاصية التي لا تستحق رحمة الإله ولا تستحق عطفه وربما لا تستحق روحه التي نفخها في تلك الذات.. دائمًا مايلوح النشيد إلى الأحشاء التي تمزّقت في حبّ الإله والرسول والصحابة وآل البيت.. وكأن الإله بعثنا لنتعذّب في حبّه وحبّ من أرسلهم إلينا !

المؤسسة الدينة التي فشلت في كلّ شيء تقريبًا فشلت أيضًا في تقريب الفنّ وبالتالي القيم والروح من الإنسان وحرّمت وجلدت النفوس المقهورة في حال اقتربت من هذا الوادي السحيق الذي سيهوي فيها في بحر العصيان العميق وأطنان الرصاص التي ستٌصبّ في إذنها يوم القيامة ! راحت هذه النفوس وكنتيجة طبيعيّة تُظهر هذا القهر فقط، تبثّه إلى الواقع لتزيده مرارة ولتفاقم مشاكله الوجوديّة .

يقولون أن الفنّ مرآة الواقع، فكما يكون الواقع سينتج فنّا منبثقًا منه ومشتق عنه، أنا أرى ذلك أيضًا وهو أمر طبيعي لكنّي أحب أن أعدّل على هذه المقولة وأقول: إن الفن يجب أن ينبثق من الوقع ويجب أن يساهم في علاج ذلك الواقع المنبثق عنه، لا أن يكتفي بعرض المشكلة فقط .. لا أن يكتفي الفنّ بالوقوف على الأطلال والندب واللطم المادّي والمعنوي !

سيحضر هنا قول البعض أن الفن لم يأتي منه إلّا العريّ والعلاقات الفاشلة والدعارة ربّما واللاأخلاق، أقول نعم وأكثر من ذلك كان حدث وسيحدث إن بقينا نقدّم الفنّ بهذه السوداوية وهذا البعد عن حلّ مشاكل الإنسان.. سيلجأ الإنسان المقهور إلى فنّ آخر فن يخدّره يبتعد به عن واقعه الكئيب عن وقعه المليء بغصّات الكره والبغض والحقد وعدم التسامح، سيجد هذا الإنسان في الفنّ الهابط ملهاة تبعده وتخرج به من حجرته المظلمة.. الفنّ هبط فعلًا لكن ذلك الهبوط كان نتيجة طبيعيّة للابتعاد عن جوهره الروحاني البعيد عن الإنسان وحل عقده المزمنة .

تأمّلوا هذا العمل معي أصدقائي، تأملو كم الروعة التي يحويها هذا العمل وكم الإبداع الذي يقطن فيه من كلمات ولحن وتوزيع وإخراج، كم نحتاج في واقعنا الفنّي إلى أعمال بهذا المستوى من الروعة والوجدانيّة والإنسانية والإتقان؟ كم نحتاج إلى أعمل تدعوا للتصالح مع الفنّ ومواضيعه النهضوّية العديدة؟ كم نحتاج لأن نقرّب الفنّ من واقعنا ونضعه وسط مشكلاتنا ونجعله يساهم في حلها؟ كم نحتاج إلى أن ننضع الفنّ بجانب منابر التغيير الأخرى ونتخّذ كل الوسائل التقنية الحديثة التي تساعد على ذلك؟

أيّام، نموذج لأعمال فنيّة كثيرة منتظرة من جيل فهم الغناء والإخراج والتمثيل حق الفهم، فهم الفنّ على أنّه مطية ومنصة لتغيير الواقع للأفضل وعدم الاكتفاء بفنّ جلد الذات والبكاء على الأطلال وطمس القيم ونشر العهر والرذيلة.. حتى لا نبقى نشهق كما شهقت الصغيرة الجميلة على صدر أبيها في نهاية الأغنية، علينا نحن من نحبّ الفن الهادف تبنّي هذه المهمّة.. وأنا أوّل من تقع على عاتقي مهمّة كهذه .

* نسخة من الأغنية بصيغة mp3